بايدن وإعادة دمج باكستان

على إدارة بايدن الجديدة، أن تضع الملف الباكستاني ضمن مصالحها الاستراتيجية الأوسع غربي آسيا، بعد إعلانها استراتيجيتها للأمن القومي

بايدن وإعادة دمج باكستان
الرئيس الأمريكي جو بايدن

ترجمة- "السياق":

منذ عام 2001، كانت باكستان محوراً رئيساً في الحرب على الإرهاب، ودولة حاسمة في التحالف العسكري الأمريكي بأفغانستان، إلا أن هذا البُعد الأمني، لم يعد دافعاً محدداً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.

ويُسهم تراجُع الوجود العسكري للولايات المتحدة، في إعادة صياغة التفكير الاستراتيجي لواشنطن.

وبدلاً من مكافحة الإرهاب، لا بُد للولايات المتحدة من الاسترشاد بأولويات المنافسة مع القوى العظمى، وفي مقدمتها إدارة علاقتها بالصين، بعدما أسهم انشغال واشنطن بقضايا ملحة، كالتغيُّر المُناخي وجائحة كوفيد 19، والتحديات الاقتصادية، في دفع باكستان إلى أسفل قائمة أولويات السياسة الأمريكية.

هذا الواقع الجديد يثير تساؤلاً مهماً، عمّا إن كان على الولايات المتحدة النظر إلى علاقتها بباكستان، التي يزيد عدد سكانها على 200 مليون نسمة، وتقع عند مدخل الخليج العربي، وتحيط بها إيران والهند والصين.

وتُعَــدُّ باكستان دولة مهمة لاستقرار الإقليم، وجسراً حيوياً إلى آسيا الوسطى... هذه العوامل تُعزِّز أهمية باكستان بالنسبة للمصالح الأمريكية، الأوسع في الاقتصاد من جهة، والأمن، غربي وجنوبي آسيا، من جهة أخرى.

لذلك على إدارة بايدن الجديدة، أن تضع الملف الباكستاني ضمن مصالحها الاستراتيجية الأوسع غربي آسيا، بعد إعلانها استراتيجيتها للأمن القومي، ويتعين على الإدارة الجديدة، الشروع في المشاركة الدبلوماسية مع إسلام آباد، بما يزيد سُبل التعاون بشأن الواقع الجيوسياسي والفُرص الاقتصادية، وهذه فرصة لواشنطن.

وتشهد حسابات باكستان الاستراتيجية تغـيُّـرات، إذ يتضح ذلك من دعمها لعملية السلام، التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان، إلا أن الضغط الاقتصادي والتغيُّرات التي طرأت على نمط التحالفات الباكستانية، أدت إلى تسريع هذا التحوُّل.

الصين تتقدَّم

وبينما وضعت الولايات المتحدة، القضايا الأمنية على رأس أولوياتها، خلال العقدين الماضيين، كانت الصين تعمل بشكل منهجي على تعميق ارتباطاتها التجارية والدبلوماسية غربي آسيا، لتكون باكستان نقطة انطلاق لمثل هذه المشاريع الصينية، حيث توفر أسواقاً وموارد جديدة محتملة، لا سيما احتياطيات الطاقة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.

واستثمرت الصين، حتى الآن، أكثر من 56 مليار دولار، في البنية التحتية والطاقة، وطوَّرت الموانئ في باكستان، كجزء من (مبادرة الحزام والطريق) كما منحت باكستان قروضاً ميسرة.

أما استثمار الصين في باكستان، فيُعدُّ استمراراً لشراكة استراتيجية، تمتد عقودًا بين البلدين، لكنها الآن لديها بُعد جيواستراتيجي إضافي، يتمثَّـل في منح الصين إمكانية الوصول إلى الموانئ والطرق، التي تمتد من خليج عُمان وبحر العرب إلى غرب الصين وآسيا الوسطى وأفغانستان، ما يدفع الولايات المتحدة إلى سلوك نهج مختلف، مع باكستان والمنطقة.

تحول حسابات باكستان الاستراتيجية

لا يمكن للولايات المتحدة، أن تضاهي الاستثمار الاقتصادي الصيني في باكستان أو في المنطقة، لكنها يمكن أن تؤثِّـر في الاتجاه الذي تتخذه إسلام آباد، فهذا الاحتمال أكبر الآن من أي وقت مضى، في الذاكرة الحديثة، إذ حدثت تغيُّـرات مهمة، في المبادئ التي حدَّدت حسابات باكستان الاستراتيجية، منذ فترة طويلة.

أولاً: لم تعد الولايات المتحدة تركز على الإرهاب، أي لم تعد تهتم بباكستان، كما فعلت بعد هجمات 11 سبتمبر.

وتحرص باكستان على إيجاد طُرق جديدة لإشراك الولايات المتحدة، وهذه المشاعر تظهر على أعلى مستويات القيادة العسكرية والمدنية في باكستان، مدفوعة بالإدراك البراغماتي، الذي يقول إن البلاد لم تعد قادرة على اعتبار مصلحة الولايات المتحدة أمراً مفروغاً منه، بينما تقلِّص الولايات المتحدة وجودها في أفغانستان.

وعرضت باكستان نهجاً جديداً قائماً على الأمن الاقتصادي، الذي يسعى إلى التعاون مع الولايات المتحدة، بشأن التغيُّـر المُناخي والتكنولوجيا، ومجموعة من القضايا الأخرى، حيث تتطلب ترجمة هذا النهج الجديد، الكثير من العمل، خصوصاً مع فشل باكستان في ترتيب أوضاعها الاقتصادية.

يرتبط ذلك بالتغيير الأساسي الثاني: الاقتصاد، إذ أن تضاؤل المساعدات الخارجية، وانخفاض تحويلات العمالة، بسبب الظروف الاقتصادية الراهنة في دول مجلس التعاون الخليجي، وانخفاض صادرات المنسوجات والصناعات التحويلية الباكستانية، كل ذلك وضع البلاد في حالة يرثى لها، ما دفع باكستان إلى الاقتراض لتمويل الديون.

ولم يعد ذلك ممكناً، فالمدفوعات على ديونها القصيرة والمتوسطة الأجل تتقارب، ما يجعل باكستان بحاجة إلى المساعدة الدولية، ويفضَّل أن يكون ذلك عن طريق القروض والمساعدات الاقتصادية، كما أنها بحاجة إلى زيادة صادراتها لتعزيز اقتصادها، فعلى الولايات المتحدة أن تأخذ في الاعتبار أنه في ظل هذه الظروف، ستكون باكستان أكثر جاهزية للتنازُلات في السياسات، بصورة توفِّـر حلولاً لهذه المشكلات.

ثالثاً: بعد نحو خمسة عقود من العلاقات المتينة، لم تعُـد المملكة العربية السعودية، العُـمق الاستراتيجي لباكستان، حيث تنأى السعودية بنفسها بشكل واضح عن باكستان، وألغت العام الماضي قرضاً بـ 3 مليارات دولار، بعدما اشتكت إسلام أباد من فقدان الدعم السعودي لباكستان في ما يتعلق بالنزاع مع الهند على كشمير.

ولم يكن التحوُّل باتجاه واحد، بل إنه يشير إلى تغيير رئيس رابع، بعد إنهاء عهد السياسة الخارجية، التي ربطت باكستان بالسعودية ودول الخليج العربي، فمن الواضح أن السعودية تتخذ منهجاً أكثر انفتاحاً في سياستها الخارجية، وتعمل على بناء علاقات اقتصادية واستراتيجية مع الهند.

خامساً: رغم أن نموذج العلاقات بين الهند وباكستان، آخذٌ في التحوُّل، مع فصل السعودية والصين والولايات المتحدة علاقاتها مع الهند وباكستان عن الصراع القائم بين الدولتين، فإن باكستان مُجبرة على إعادة تقييم كيفية انخراطها مع شركائها التقليديين، بشأن العامل المحدد لعلاقاتها الخارجية بعدد من البلدان، وهو،  التنافس مع الهند.

أما الأثر التراكُمي لهذه التطورات الخمسة، فهو تفكيك الحسابات الاستراتيجية لباكستان، وترك البلاد بلا هدف، وجعلها غير واثقة بمكانتها ورؤيتها.

وتطرح هذه التحولات أسئلة جدية لصُناع السياسات، منها، على سبيل المثال: ماذا تعني نهاية نموذج السياسة الخارجية للتشدد، الذي يتخذ من باكستان مقراً له؟

وماذا يعني إبعاد الصين والمملكة العربية السعودية، عن التوترات بين الهند وباكستان، عندما يكون الجيران على شفا حرب نووية؟

نهج جديد

أمام الولايات المتحدة فُـرصة نادرة، لإعادة دمج شريك قديم، في ظل عدم التأثير السعودي في السياسة الخارجية لباكستان، وغياب ضمانات كافية لدعم صيني غير مشروط.

ومن الحكمة، التركيز على الحاجة الأكثر إلحاحاً لتعزيز السلام في أفغانستان، لكن الأوضاع على الأرض، في أفغانستان وأماكن أخرى بالمنطقة، يجب إعادة ترتيبها، للحفاظ على السلام، بعد المفاوضات والصفقات الدبلوماسية بين النخب السياسية، وفي حال استمرار الولايات المتحدة، في ربط استقرار المنطقة بباكستان، عليها أن تقوم باستثمارات أكثر أهمية في البلاد، بما يتجاوز المصالح الأمنية.

وكما أظهرت العلاقات بين الشركات الأمريكية والأجنبية، في جميع أنحاء العالم، فإن آفاق الاستثمارات في القطاع الخاص، تدفع الدول إلى تبني الإصلاح الاقتصادي بجدية أكبر، والمزيد من الارتباطات المباشرة بين الشركات، مع لمسة حكومية خفيفة، يمكن أن تسهل المبادرات، وتحتضنها بشكل أسرع بكثير، من الأجهزة البيروقراطية.

وعلى سبيل المثال، فإن اتفاقية التجارة بين إسلام آباد وبكين، تجعل باكستان مركزاً مثالياً لإعادة التصدير، لذا يمكن للشركات الأمريكية بناء منشآت تصنيع فيها، وإضافة قيمة للسلع الأمريكية هناك، ما يمكّن هذه السلع من الوصول إلى السوق الصينية كصادرات باكستانية.

كذلك، يمكن للولايات المتحدة إشراك القطاع الخاص الباكستاني في أفغانستان، حيث تتطلع شركات البناء والسلع الاستهلاكية الباكستانية بالفعل، للاستفادة من نتائج السلام في أفغانستان، كما تأمل إسلام آباد تصدير السلع الغذائية والزراعية عبر الحدود، ويمكن من خلال الاستثمار والتجارة، ترسيخ العلاقات الاقتصادية، بين الولايات المتحدة وباكستان.

ولأن أفضل ما تمتلكه أي دولة هو شعبها، تتضح إمكانية الاستفادة من برامج التبادل في حصول مئات الباكستانيين على منح "فولبرايت" (التي تهدف إلى تحسين العلاقات بين الشعوب والثقافات) إضافة إلى المجتمع الباكستاني - الأمريكي النابض بالحياة، وعدد من الشركات الأمريكية، المشاركة في السوق الاستهلاكية المتنامية في باكستان. وفي ظل تركيبة سكانية، تتميز بأن ثلثي سكانها تحت سن الثلاثين، تشكل باكستان سوقاً واعدة، بشرط توفر البيئة التنظيمية المناسبة.

أما الاستفادة من هذه الإمكانات، فلن تكون أمراً سهلاً، فالإفراج عن المُدان بقتل الصحفي الأمريكي دانيال بيرل، مثلًا، يعد من أهم عقبات تطوير العلاقة، وقد تكون الخطوة الأولى الجيدة، استئناف الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وباكستان، لأنها حريصة على معرفة كيف ستتعامل إدارة بايدن مع البلاد.

كذلك، تريد الولايات المتحدة، ضمان الحفاظ على علاقة مع باكستان، لتحمي مصالحها في المنطقة، ومن شأن وضع إطار رسمي،  توضيح التزام عام بالقضايا التي تقع في صميم العلاقة، ويُضفى جواً من الأهمية، ما  يحفز جميع الأطراف المعنية ويوفِّـر آلية تسمح بالإشراف المستمر ومتابعة الالتزامات.

ولدى واشنطن فُـرصة للخروج من التاريخ البائس للعلاقات الأمريكية الباكستانية، وفَّـرتها الضرورات الاستراتيجية في البلدية، وإذا استُكشفت بشكل فعال، يمكن أن تخدم المصالح الإقليمية للولايات المتحدة، وتوفِّـر أيضاً قوة دافعة للتغيير في باكستان.

_______

*شاميلا شودري وفالي ناصر، باحثان في العلاقات الدولية والشؤون الآسيوية، والدراسة مترجمة عن موقع (أتلانتيك كاونسيل)