كيف يُفسد الإسلاميون الإسلام؟
ما هي القوة المحركة وراء وباء الربوبية كما أطلق عليها المتدينون المحافظون في تركيا

ترجمة-السياق
"عندما يهبط الدين من عليائه ويختلط ويشتبك مع شؤون الدنيا، يصبح مدمراً للجميع... ولنفسه، أيضاً"
مصطفى فاضل باشا، رجل الدولة العثماني 1867م
خلال مخاطبته الاسبوعية للبرلمان الوطني في 10 أبريل 2018، تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع وزير التربية آنذاك، عصمت يلماظ، وبث التلفزيون جانباً من الحديث، من غير قصد، رغم إغلاق المايكروفون.
كان مشهداً مثيراً. خلال مخاطبته البرلمان، دعا أردوغان الوزير يلماظ إلى المنصة وسأله عن "تقرير الربوبية" الذي أشار إليه حليفه السياسي الرئيسي، ديلفت باشيلي، في خطاب آخر قبل ساعات. وعندما حاول الوزير توضيح النتائج لرئيسه، بكل احترام، قال أردوغان: "لا. لا يمكن أن يحدث مثل هذا الأمر".
قامت إدارة محلية تابعة لوزارة التربية التركية بإعداد التقرير قبل أسابيع، محذرةً حكومة أردوغان من "الفكر الربوبي في أوساط الشباب"، واعتبرته مثيراً للقلق. وجد التقرير الرسمي أنه حتى في أوساط المدارس الدينية التي ترعاها الدولة – مثل ثانوية الإمام خطيب- التي شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في عدد طلابها خلال عهد أردوغان بفضل الحوافز الحكومية- فإن عدداً كبيراً من الطلاب يفقدون قناعتهم بالإسلام، ويخلص التقرير إلى:"معظم الشباب (الذين فقدوا إيمانهم بالإسلام) يختارون الربوبية، عوضاً عن الإلحاد".
ما الذي يعنيه ذلك؟
رغم الجهود المكثفة لحكومة أردوغان لتربية "جيل جديد مؤمن"، فإن نسبة مهمة من شباب تركيا تختار الاعتقاد بإله غامض في الوقت الذي تبتعد فيه عن العقيدة الإسلامية.
خلال السنوات القليلة الماضية، لاحظ عدد آخر من الأتراك هذا الاتجاه الاجتماعي، وأصبح الأمر من المواضيع المهمة التي تناقشها الأمة. وتساءلت مئات المقالات في الإعلام المطبوع والنقاشات التلفزيونية: لماذا يتجه شبابنا نحو الربوبية؟ في أبريل 2018، قام رئيس الشؤون الدينية (ديانت)، علي أرباش، في البدء بنفي التقارير الخاصة بانتشار عقيدة الربوبية نفياً باتاً، وأنكر احتمال أن يكون "أي فرد من أمتنا مهتماً بعقيدة فاسدة (مثل الربوبية)"، لكن بعد 5 شهور أعلنت (ديانت) شن الحرب على الربوبية.
"وباء الربوبية" في تركيا لماذا الآن؟
ما هي القوة المحركة وراء "وباء الربوبية"، كما أطلق عليها المتدينون المحافظون في تركيا؟ وجد بعض أنصار أردوغان الإجابة في "المؤامرة الغربية"، التي أصبحت تمثل حجر الأساس في رؤيتهم للعالم. وعلى سبيل المثال نجد أن الداعية التلفزيوني المشهور، نيهات هاتيبوغلو، يرى أن الإمبرياليين، الذين يريدون إضعاف تركيا لأنها بدأت تصبح عظيمة، "غرسوا" الربوبية في الأمة التركية. أما علي أرباش، أعلى رجل دين حكومي، فيرى أن القوى الحقيقية وراء "انزلاق" الشباب التركي نحو الربوبية هم "المبشرون الغربيون" الذي يرى أنهم يحاولون سرا جذب الشباب للربوبية "لإبعادهم عن الإسلام" وبعد ذلك تحويلهم إلى المسيحية.
أما بالنسبة لبقية الأتراك، فإن الربوبية لا تشكل مؤامرة كبرى بل مفارقة كبرى؛ ففي تركيا التي يفخر البعض بالإشارة إليها بأن مواطنيها "99% مسلمين"، يأتي هذا الهروب الكبير من الإسلام في وقت يحظى فيه الإسلاميون، بما في ذلك الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، بسلطة سياسية لم يتمتعوا بها من قبل.
في الواقع، يستطيع المرء أن يرى الأمراً عادياً ومفهوماً وليس مفارقةً؛ هناك هروب من الإسلام لأن الإسلاميين يمسكون بمقاليد السلطة... وطالما كشف حكم حزب العدالة والتنمية أنه حكم سلطوي، وفاسد، وقاسي، فإن من يرفضون سلطته أصبحت لديهم مشاعر غير جيدة تجاه الإسلام.
هناك عدد ممن يعتقدون بذلك في تركيا، ومنهم تامال كارامول أوغلو، زعيم حزب السعادة، الذي يستمد مبادئه من الإسلاموية مثل حزب العدالة والتنمية، لكنه انضم للأحزاب العلمانية المعارضة لنظام أردوغان. في يونيو 2019، قال كارامول أوغلو :" هناك إمبراطورية خوف... ديكتاتورية من يدعون تمثيل الدين.... وهذا يُنفر الناس من الدين". (يمثل حزب كارامول أوغلو أقلية متنامية من المتدينين المحافظين الذين كفروا بنظام أردوغان). هؤلاء الناخبون الأتراك لديهم منابر أخرى تتمثل في حزبين سياسيين جديدين برئاسة قيادات سابقة في حزب العدالة والتنمية انشقت عن نظام أردوغان، وهما حزب المستقبل الذي يقود رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، وحزب الديمقراطية والتقدم الذي يقوده علي بابا جان.
ومن النقاد الآخرين، عالم الاجتماع التركي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، موكيت بلييش، وهو مسلم ملتزم، حيث يُعرف الاتجاه نحو الربوبية بأنه جزء من "أزمة الاتجاه الديني". ويرى أن هذا الاتجاه أصبح يتنفس بعد نجاحه في التغلب على النظام العلماني الكمالي (الأتاتوركي) الذي امتد لنحو قرن من الزمن. نتيجةً لذلك، "فقد وجد الاتجاه الديني في تركيا نفسه أمام اختبار. وفي حين نجح في هذا الاختبار سياسياً، فقد فشل روحياً". ويضيف: "صعود الربوبية نتاج لهذا الفشل الدراماتيكي".
وأضاف عالم الاجتماع التركي: "يجب التركيز على أن هذه العملية لا علاقة لها بمشروع العلمنة التي ترعاها الدولة، وفقاً لرؤية مصطفى كمال أتاتورك. على العكس من ذلك فهي "علمنة عضوية"، ومدنية بشكل كامل وليست بناء على رغبة الدولة بل على العكس من رغبتها؛ وهي نتيجة للتنوير المحلي الداخلي، الذي يشهد ازدهاراً في مرحلة ما بعد المشاعر الإسلاموية". ويرى بلييش أن "الجيل الشاب، الذي تعرض للتضليل عبر المزاعم الدينية لآبائهم، ويعتبرها نفاقاً، بدأ يختار طريقاً روحياً فردياً، مع الرفض الصامت للتقاليد".
ما حدث في تركيا خلال العقد الماضي يعتبر نوعاً مخففاً مقارنةً بما جرى في جمهورية إيران الإسلامية على مدى أربعة عقود، ففي إيران نجحت شريحة من الإسلاميين، الذين تعرضوا للتهميش في ظل نظام علماني لنحو قرن من الزمن، من الاستيلاء على السلطة بثورة شعبية. وكانت الثورة الإسلامية، التي بدأت في 1979 أكثر بروزاً ودمويةً.
على العكس من ذلك، فإن "الثورة" التي تشهدها تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية متدرجة وديمقراطية وسلمية إلى حد ما.
مع ذلك، يمكننا القول إن الإسلاموية جاءت إلى السلطة السياسية ولديها "ثأر تاريخي"، لكنها أدت إلى تحقيق أكثر النتائج غير المقصودة.
في إيران كان طموح ثورة 1979 هو إعادة أسلمة المجتمع الإيراني، لكنها نجحت، نسبياً على الأقل، في تحقيق العكس؛ أي "نزع الأسلمة من إيران"!
يلاحظ الزوار الأجانب في طهران هذه النتائج في الحياة اليومية. أحد هؤلاء الزوار هو نيكولاس بيلهام، مراسل "الإيكونوميست" في الشرق الأوسط، الذي اعتقلته سلطات الأمن الإيرانية لأسابيع في صيف العام 2019 قبل أن ينشر ملاحظاته.
يقول بيلهام: "رغم سمعة إيران فيما يتعلق بالالتزام الديني، قد تكون طهران أقل العواصم تديناً في الشرق الأوسط. يهيمن رجال الدين على الأخبار ويلعبون دور الكبار في المسلسلات لكني لم أرهم في شوارع طهران ما عدا في اللافتات الترويجية..
على العكس من معظم الدول الإسلامية، فإن الأذان غير مسموع. وهناك دعوات منتشرة لبناء مساجد جديدة، لكن من يذهبون إلى صالات عرض الفنون أيام الجمعة أكثر ممن يذهبون لأداء الصلاة. ورغم أن الكحول ممنوعة، فإن خدمة توصيل النبيذ إلى البيت أسرع من البيتزا"!
ويضيف: "في البيوت، تخلع السيدات غطاء الرأس عندما يتحدثن عبر الإنترنت، وتوفر صالات السينما استراحة من شرطة الأخلاق التي تفرض الالتزام بالقوانين. وفي المقاهي، تهمل النساء إحكام غطاء الرأس، ولا تهتم النساء الأكثر شجاعةً بلبسها في الشوارع أيضاً، وهو ما قد يعرضهن للسجن 10 سنوات".
"تُسمي إيران نفسها إسلامية، لكن من الصعوبة أن تجد مكاناً للدين فيها، أما المتدينون عن حق، فهم مهمشون مثل أقلية".
يُعد هذا الغياب الشامل للتدين جانباً واحداً من فشل الثورة الإيرانية في إعادة الأسلمة. أما الجانب الأكثر خطورةً فهو الارتداد عن الإسلام، وهو الأمر الذي تحاول الجمهورية الإسلامية تفاديه وتصل عقوبته إلى الإعدام. كما كتبت سابقاً، فإن إيران تعتبر أكثر دولة إسلامية من حيث عدد المسلمين المرتدين، ويعتنق عدد من هؤلاء المسيحية، ما يجعل الكنيسة الإيرانية "الأسرع نمواً في العالم".
وبناءً على دراسة، فإن عدد الإيرانيين الذين تحولوا من الإسلام إلى المسيحية في الفترة من 1960 إلى 2010 بلغ نحو 100 ألف شخص. وتُقدر دراسة حديثة عدد هؤلاء الذين هجروا الإسلام إلى المسيحية فيما بين 250 ألف إلى 500 ألف إيراني. ويمارس عدد من هؤلاء عباداتهم الدينية المسيحية في سرية داخل إيران، بينما فرّ آخرون إلى خارج البلاد للحفاظ على حياتهم.
هناك عدد من الإيرانيين الذين لم يتحولوا إلى المسيحية بل إلى الإلحاد، ومن هؤلاء الناشطة النسوية، أزام كامقويان، التي فرت من إيران ونشرت عدداً من الكتب مثل "عدم الإله، التحرر من الدين، والسعادة الإنسانية". تقول أزام في أحد كتبها: "بعد 1979، أفسد الإسلام في إيران حياة الناس وأحلامهم وآمالهم، وطموحات ثلاثة أجيال متعاقبة". وبالطبع، فإن الجمهورية الإسلامية هي التي فعلت ذلك وليس الإسلام، لكن يبدو سهلاً للبعض الخلط بين الاثنين في مرحلة ما بعد الثورة الإيرانية.
الموجة العلمانية في العالم العربي
وماذا عن العالم العربي؟
هذا مشهد كبير ومتنوع، حيث يضم 22 دولة لكل منها تاريخها ونظامها السياسي المختلف، فضلاً عن مكوناتها الطائفية والإثنية والقبلية. مع ذلك، فهناك موجة علمانية جديدة في الدول الناطقة باللغة العربية.
أوضحت شبكة"الباروميتر العربي" البحثية المستقلة، التي تتخذ من جامعتي برنستون وميتشغان مركزاً لها، بعض ملامح هذه الموجة، حيث قامت باستطلاع في 6 دول عربية هي الجزائر ومصر وتونس والأردن والعراق وليبيا، مشيرةً إلى أن "العرب بدأوا يفقدون الإيمان في الأحزاب والقيادات الدينية". وخلال 5 سنوات، ارتفع عدد العراقيين الذين يرون أنهم لا يثقون في الأحزاب الإسلامية من 51% إلى 78%، وتراجعت ثقة الناس في الأحزاب الإسلامية في الدول التي أجري فيها الاستطلاع من 35% في العام 2013 إلى 20% في 2018. كذلك تراجع عدد رواد المساجد بنحو 10 نقاط، وارتفع عدد العرب الذين يرون أنهم غير متدينين من 8% في العام 2013 إلى 13% في 2018.
لماذا يحدث ذلك؟
إحدى الإجابات على هذا السؤال تكمن في الأحداث المرعبة التي ارتكبت باسم الإسلام في العالم العربي، بما في ذلك الحرب الطائفية في سوريا والعراق واليمن، حيث تحارب معظم الفصائل المتقاتلة باسم الله، وبعنف وقسوة. وتعرض ملايين الضحايا والمراقبين للصدمة والإحباط في السياسة التي تلتحف رداء الدين، وبدأ عدد منهم في طرح أسئلة عميقة.
كان أبوسامي، الفنان العراقي الذي يبلغ من العمر 52 عاماً، ممن طرحوا الأسئلة الصعبة ووجد الإجابة في هجر الدين. يقول أبوسامي لشبكة أخبار (إن بي سي) في أبريل 2019: "كنا نسمع أن الإسلام دين السلام، لكن داعش تصرفت مثل الوحوش والبرابرة بل أسوأ من ذلك"، ويضيف: " هل هذا دين سلمي؟ ليس كذلك على الإطلاق، ولا أريد أن انتمي لمثل هذا الدين".
ويبدي المثقف الإسلامي العراقي، غالب الشهبندر، قلقه من هذه الموجة بقوله إن "هناك موجة إلحادية ستغطي العراق بسبب الممارسات الخاطئة للأحزاب الإسلامية... هم السبب الذي دفع الناس لهجر الإسلام وبقية الأديان".
وهناك توجهات مشابهة في سوريا المجاورة، التي تمزقت بعنف داعش وأشباهها، ونظام بشار الأسد القاسي. ويلاحظ الكاتب السوري، شام العلي، أنه في ظل العنف والفوضى، أصبح نقد الدين أكثر جرأة، وهناك الكثير من الشباب السوريين، خاصة المقيمين في أوروبا، الذين يهجرون نمط الحياة الديني الذي كانوا يتبعونه في بلادهم".
ويضيف العلي: "بعيداً عن المجال الشخصي، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تمتلئ بانتقادات ضد الدين، وتدعو إلى إعادة التفكير في الأساطير الدينية، وتستخف بها".
يمثل السودان تجربة إسلاموية مريرة، إذ رزح هذا البلد الأفريقي ذو الأغلبية المسلمة، تحت حكم ديكتاتوري بقيادة عمر البشير، ضابط الجيش الذي أصبح رئيساً، في الفترة من 1989 إلى 2019. أدت المظاهرات الشعبية، أو "الثورة السودانية" إلى إسقاط البشير في أوائل 2019، كما كشفت عن فساده المريع، ففي منزله فقط، وجدت قوات الأمن 350 مليون دولار نقداً!
كان ذلك درساً عاماً، فـ"الرجل الذي أشعل المشاعر بالحديث عن بداياته المتواضعة، كان يخفي طمعه لخداع الأجيال"، وقد تعلم الشعب الدرس.
يقول عبد الوهاب الأفندي، الأكاديمي السوداني الإسلامي: "في سودان ما بعد الثورة، تعد الإسلاموية مرادفاً للفساد والنفاق والقسوة والعقيدة الفاسدة. ربما يكون السودان أول دولة مناهضة للإسلاموية، عن حق، إذا قسنا ذلك بمعايير شعبية".
لكن، ما هي الإسلاموية؟
قد يبدو مفيداً توضيح أننا نتحدث عن اتجاهات مترابطة لكنها متميزة، فالإحباط من الإسلاموية في تركيا وإيران والسودان وبقية الأماكن قد يؤدي إلى الإحباط من الإسلام نفسه، وقد يؤدي إلى الإلحاد أو الربوبية أو المسيحية، أو قد يؤدي إلى السعي لعقيدة أقل تسيساً، وهو الخيار الذي يظل حاضراً في ما بعد الإسلاموية، وقد يبرهن عن أنه الاتجاه الأكثر قبولاً وليس التخلي عن الإسلام تماماً.
ليس من السهولة فصل الإسلاموية عن التيارات الإسلامية الأساسية، السنية والشيعية، فربما تسعى الأحزاب الإسلاموية مثل الاخوان المسلمين في مصر للمزيد من تسييس الدين، والجماعات الإرهابية قد تضيف عنصراً جديداً للعنف.
تتفق هذه الجماعات في الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية، التي يصعب أن تتوافق تفسيراتها وأوامرها مع واقع العصر مثل إعدام المرتدين والزنادقة، ورجم الزناة، وقطع أيدي السارقين، والجلد أمام الجمهور لمرتكبي عدد من المعاصي، وفرض نوع من الزي على النساء، وتفوق الرجال على النساء، والمسلمين على غيرهم، وفكرة المجتمع المغلق الذي لا يستلهم الدين فقط بل يُحكم ويُضبط به.
ركز الكاتب السوري الراحل محمد شحرور (توفي 2019)، الذي حُظيت كتاباته بنقاشات واسعة في العالم العربي، على هذه النقطة، أي أن المعضلة لا تكمن في الإسلاميين، الذين لديهم برنامج سياسي لتطبيق الشريعة فقط، إنما أيضاً في العلماء الذين يتمسكون بتفسيرات بالية للشريعة. في إحدى كتاباته، التي دعا فيها المسلمين لتحكيم العقل النقدي، قال شحرور: "في البدء، اعتقدنا أن الإسلاموية يمكن توضيحها بأنها انحراف عن تقاليد العلماء السليمة، وتوقعنا أن يرفض العلماء رؤى الإسلاموييين وطموحاتهم العدوانية لتسييس الإسلام وأسلمة العالم كله، وفوجئنا عندما لم نسمع كلمة إدانة من علمائنا المبجلين، بل على العكس من ذلك لم نجد سوى توضيحات تتسامح مع طيف واسع من الإسلاميين. وعندها أدركنا أن تفسيرات العلماء فيما يتعلق بالردة والجهاد والحرب لا تختلف كثيراً عن مواقف الإسلامويين".
بهذا، نجد أن الإسلامويين، سوءاً كانوا من الحركات السياسية مثل الإخوان المسلمين أو الإرهابيين المتطرفين، ليسوا السبب الرئيسي في الإحباط من الإسلام حالياً، بل يشاركهم في ذلك رجال الدين المحافظين، من سنة وسلفيين وشيعة، الذين يتبنوا مفاهيم دينية تناقش الأفكار الحديثة للحرية والعدالة وحقوق الإنسان.
يقول محمد، المغربي الذي هجر الإسلام، إن ما دفعه إلى الإلحاد هو القناعة المطلقة للمسلمين بأنهم على صواب، فهم يعتقدون بأنهم الوحيدين الذين يملكون الحقيقة المطلقة، ويعتقدون بأن المسلمين فقط هم الذين سيدخلون الجنة. سأل محمد نفسه: وماذا عن بقية العالم؟ على سبيل المثال، فإن أم زميلي في الدراسة من أصول يهودية، ولم أتخيل أن تكون تلك السيدة اللطيفة في جهنم. كذلك، فإن الأحاديث، المنسوبة للرسول، فيما يخص النساء وغير المؤمنين والحروب وغيرها لم تكن تبدو أخلاقية.
وأشار ملحدون مغاربة آخرون لأسباب مشابهة دفعتهم للتخلي عن دينهم. يرى عبد الله، وهو مسلم سابق، أن الأسباب الرئيسية التي دفعته للإلحاد كانت كراهية الأوساط الإسلامية للمثليين، ويتساءل: كيف يدين الله المثليين بسبب معاصيهم، وهو الذي خلقهم؟ ويرى ملحد آخر أن السبب الأساسي بالنسبة له تمثل في "الغموض الذي تخلقه قضايا أخلاقية مثل عدم المساواة بين الجنسين".
لذلك، يحذر الإسلامويون ورجال الدين المحافظين من شمال أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا، المسلمين من القيم الحديثة مثل الحرية الفردية، وحرية التعبير والمساواة بين الجنسين.
أزمة الحضارة
تعتبر كل هذه الحكايات والملاحظات والتقارير والإحصاءات التي ذكرتها أعلاه مجرد أجزاء من قصة كبيرة، وهي أن الحضارة الإسلامية في أزمة، وقد يبدو هذا تعميماً بالنسبة لعدد من الغربيين لكن بعض المسلمين المعاصرين يعتقدون أنه وصف عادل، بما في ذلك الإسلامويين والمحافظين الذين وجهت لهم سهام النقد، فهم سيختلفون معي فقط في نوع الأزمة وليس في وجودها.
بالنسبة للكثيرين، خاصة الإسلاميين، فإن الأزمة سياسية؛ منذ إلغاء الخلافة، ليس لدى المسلمين دول قوية أو قيادة تستطيع تجييش أو توحيد المسلمين من أجل التغلب على خلافاتهم الداخلية، وهزيمة أعدائهم الخارجيين (تحديداً الغرب وإسرائيل) ، وتحقيق النجاح في الدنيا. كذلك، يرون أن المجتمعات الإسلامية تعاني من انتشار الأفكار غير الإسلامية، إن لم يكن العملاء المأجورين للإمبرياليين والصف الخامس، فيما يغط المسلمون في نوم عميق. ولإيقاظ هذه المجتمعات، يرى الإسلامويون أن المسلمين بحاجة إلى حركية طليعية ( عادةً: هم أنفسهم) أو صلاح الدين جديد، (وهو عادةً: قائدهم الكاريزمي)، لإستعادة وحدة المسلمين ومجدهم التليد.
قد يتفق المحافظون مع هذا الرأي، لكن يرون أن الأزمة الحالية لديها مكون أخلاقي كذلك، أي أننا المسلمين لسنا متدينين بما فيه الكفاية. ويرى المحافظون أن المسلمين في الوقت الحالي، على العكس من أسلافهم، انغمسوا في عالم المكاسب والمتع الدنيوية وأغفلوا شؤون الآخرة. ونتيجة لذلك، لم نعد مشمولين برحمة الله، وفقدنا تأثير القوى الروحية لديننا.
يرى الإسلامويون والمحافظون أن النظرية، أي التقاليد الإسلامية، سليمة ومكتملة، لكننا فشلنا في التطبيق، وبعد كل فشل في التطبيق سيقولوا: "لكن هذا ليس الإسلام الصحيح"، آملين بأن ينجح التطبيق المقبل. أما الحقيقة المّرة، فهي أن لدينا مشكلة في النظرية نفسها، خاصة ما يعتقد الإسلامويون والمحافظون أنه كامل لا تشوبه شائبة، أي القيم.
قبل عدة قرون، لم يكن أي شخص في العالم يستطيع انتقاد الحضارة الإسلامية بسبب القيم، لأن العالم، بما في ذلك أوروبا، لم يكن لديه ما هو أفضل. على سبيل المثال، في حين كان الكاثوليك والبروتستانت يذبحون بعضهم في حرب الـ30 عاماً (1618- 1648)، كانت الإمبراطوراية العثمانية، التي تضم شعوباً متعددة الأديان، تبدو كمنارة للتسامح،وعندما كان اليهود يحاكمون في إسبانيا الكاثوليكية في منتصف القرن الخامس عشر، فر عدد منهم إلى الحضارة الإسلامية بحثاً عن الأمان والحرية.
ومع صعود الحداثة الليبرالية، تغير العالم بصورة دراماتيكية، ونفترض أن ذلك كان إلى الأفضل على الأقل فيما يتعلق بالقيم، حيث أصبحت حقوق الإنسان قيمة عالمية شاملة، ومقبولة بنسبة كبيرة من البشرية (وإن لم يكن من بينها الأنظمة الحاكمة غير الخاضعة للمحاسبة). أصبح من البديهيات أن لا يفرض على شخص الإيمان بدين ما، وأن من حق جميع الأفراد اختيار الحياة التي يرونها مناسبة لهم طالما لا يسببون الضرر لشخص آخر. كذلك، فإن مساواة كل الناس أمام القانون، بغض النظر عن الدين أو الجنس، أعادت تعريف مفاهيم العدل والأخلاق.
كان على الأديان، التي وجدت قبل فترات طويلة من العصر الحديث، أن تتلاءم مع هذه القيم، وقد فعل بعضها ذلك، فقد توقف البروتستانت عن محاكمة المهرطقين والسحرة وحرقهم أو تعذيبهم بطرق أخرى. أما الكاثوليك، الذين شهد تاريخهم حقباً مظلمة مثل الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، فقد قاوموا الأفكار الحديثة مثل العلمانية السياسية والحرية الدينية حتى القرن العشرين، لكن الكنيسة اتخذت خطوة كبيرة في الستينيات من القرن العشرين، الذي شهد إصدار الإعلان الليبرالي.
من جانبها، شهدت اليهودية، التي لم يكن لها سلطة سياسية لقمع أي شخص لكنها تتمتع بقدر من التضامنية المغلقة وخضوع الفرد للجماعة، مرحلة التنوير اليهودي (هاسكالا Haskalah) التي ساعدت اليهود على الإندماج في المجتمع الحديث، بل المساعدة في ريادته.
أما الإسلام، فلم يتخذ المسلمون خطوة ليبرالية كبيرة حتى الآن، فالسلطات السائدة في مختلف الدول التي تقطنها غالبية مسلمة ما زالت تحتكم إلى رؤية بالية للعالم وفلسفة القانون، ومن المستحيل إخفاء تعارضها مع القيم الحديثة. وليس من المقنع أن تقول إن "الإسلام هو دين السلام"، لكن "يمكن قتل أي شخص يرتد عن". كذلك، فليس من المنطقي الإصرار على أن "الإسلام يحترم النساء" مع إيماننا بنصوص توضح لنا كيفية ضرب الزوجة بطرق مناسبة.
الطريق إلى الأمام: الحداثة الإسلامية
تنبع الأزمة الكبيرة التي تعيشها الحضارة الإسلامية من الصراع بين المسلمين، الذي يريدون المحافظة على رؤية بالية للعالم وفلسفة القانون (والأسوأ: فرضها على الآخرين)، وبقية المسلمين الذين يقبلون بالقيم الليبرالية. وقد ينجح بعض هؤلاء الذين قبلوا بالقيم الليبرالية، خاصةً من يعيشون في الغرب بعيداً عن سطوة الإسلامويين والمحافظين، في تفادي المعضلة نسبياً، لكنهم يصطدموا بها عندما يتعاملوا مع التعاليم التقليدية. ويصف أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة نوتردام، إبراهيم موسى، كيف يتعرض بعض المسلمين للصدمة.
"عندما يسمع هؤلاء المسلمين المتدينين المعاصرين الخطب والتعاليم في المساجد أو يقرأوا الفتاوى التي يصدرها العلماء، يشعرون بالصدمة والإهانة، لكن ما يسمعوه هو "سنة حقيقية".
ويُعتبر موسى من المفكرين المدافعين عن موجة "الحداثة الإسلامية" أو "التقدمية الإسلامية"، وهي جهود لإعادة قراءة الأصول الأساسية للإسلام، أي القرآن والسنة، عبر وضعها في سياقها التاريخي. بدأت هذه الموجة في القرن التاسع عشر مع الإصلاحيين السياسيين مثل العثمانيين الشباب والإصلاحيين الدينيين مثل المصري محمد عبده، والهندي سيد أحمد خان، الذين وضعوا الأسس لما وصفه المؤرخ كريستوفر دو بيلاج بــ"التنوير الإسلامي".
في القرن العشرين، كانت الحداثة الإسلامية ضحية للتنازع بين السلطويين العلمانيين والإسلامويين، كما وجدت من يضع بعض الأسس لها مثل فضل الرحمن ملك، الذي قدم تفسيرات معاصرة للقرآن ودراسة نقدية للسنة.
تشبه الحداثة الإسلامية ما فعله المسيحيون واليهود وهم يقومون بتبني الحداثة الليبرالية، فهي ملتزمة بجذورها الدينية، وتقدر إنجازات العقل. وقدم دانييل فيلبوت مقارنة بليغة في كتابه "الحرية الدينية في الإسلام 2019" حيث أوضح أن طريق الكاثوليكية إلى "كرامة الإنسان" يمكن أن يكون مثالاً للإسلام لتطوير "بذور الحرية" التي توجد، بالتأكيد، في القرآن والسنة.
وبوصفي مسلماً يواجه هذه القضايا، فأنا مقتنع بأن "الحداثة الإسلامية" هي السبيل الأكثر أماناً للأمة، حيث لا تكتفي بالالتزام بأسس الإسلام مع تبني القيم الحديثة المتجذرة في الضمير الإنساني المعاصر، لكنها أيضاً تجعلها متسقة مع إيماننا، وهي رؤية تشابه تجربة العالم الأنغلو ساكسوني حيث تتوافق قيم الدين والحرية والتقدم الحديث، ولا تعتبر عناصر متصارعة.
أما إذا ظلت الحداثة الإسلامية مهمشة، فستكون الأمة منقسمة بين المحافظين والإسلامويين، الذين يريدون المحافظة على عصور سابقة وإحيائها، وهو ما يدفع المسلمين أصحاب الأفكار الحديثة إلى "الربوبية والإلحاد وأنواع متنوعة من العلمانية". ستكون تجربة شبيهة بما عاشته فرنسا حيث أصبحت الحرية والدين قوى متصارعة، وأغرقت المجتمع في حروب ثقافية مريرة.
شهدت الحضارة الإسلامية الكثير من هذه الحروب، وستشهد المزيد منها لو أصر الإسلامويون والمحافظون على طرقهم غير الليبرالية، وغير المتسامحة، والمتعالية. لقد أدى التمسك الحرفي للمحافظين بالتقاليد، والمحاولات السلطوية للإسلامويين لفرض هذه التقاليد إلى إعاقة المجتمعات وتدمير الكثير من أفرادها، وما لم يتغير هذه المسار، فلن يكون أمامنا سوى المزيد من الدمار.
________
*مصطفى أكيول زميل في معهد كاتو. متخصص في الإسلام والحداثة والسياسة العامة، والدراسة مترجمة من موقع معهد هدسون